Jannah Theme License is not validated, Go to the theme options page to validate the license, You need a single license for each domain name.
الخطب المكتوبة

١٠ ذنوب يعذب من فعلها في القبر.. مشاهد العصاة في قبورهم 😔

القبر إما روضةٌ من رياضِ الجنةِ، أو حفرةٌ من حُفَرِ النارِ. إمَّا نعيمٌ أو جحيمٌ. إما سعادةٌ وسرورٌ، أو شقاءٌ وهُمٌّ وضِيقٌ. وقد ورد عن نبيِّنا صلى الله عليه وسلم ذكرٌ لبعضِ مشاهدِ العصاةِ في قبورِهم نسألُ الله أن يقِيَنا عذابَ القبرِ وما بعدَه من أهوالٍ.

والموفَّق ينظر في هذه المشاهد بقلبٍ وَجِلٍ يخشى عذابَ الله وعقابَه، ويسأله سبحانه أن ينجيه من عذابِه، ويحذرُ أن يقترِبَ من تلك المعاصي التي يُعذَّبُ أهلُها في الآخرةِ.

وها أنا ذا أذكرُ لك بعضَ هذه المشاهدِ، علَّمني الله وإياك علمًا ننجو به من عذابِ الآخرةِ.

١- مشهد الكافر والفاجر:

قال تعالى: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [التوبة: 3].
وقال جل شأنه: {وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ * النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر: 45، 46].

قال العلماء: {وَحَاقَ} وحلَّ {بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ} وهو الغرق في اليم، ثم النَّقْلة منه إلى الجحيم، فإنهم لما هلكوا وغرَّقهم الله جُعِلَت أرواحُهم في أجوافِ طيرٍ سُودٍ. {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا} أي: أنَّ هذه الأرواحَ تُعرَضُ على النارِ كل يوم مرتين غدوًّا وعشيًّا وهم في البرزخِ إلى أن تقومَ الساعةُ، {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} فتَجتمِعُ أرواحُهم وأجسادُهم في النارِ عياذًا بالله.

وعن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: بينمَا النبيُّ ﷺ في حائطٍ لبني النجَّارِ على بغلَةٍ له، ونحن معه إذ حادَتْ به، فكادَتْ تُلْقِيه وإذا أَقْبُرٌ ستةٌ أو خمسةٌ أو أربعةٌ، فقال: (من يعرِفُ أصحَابَ هذه الأقْبُرِ؟)
فقال رجلٌ: أنا.
قال: (فمتى ماتَ هؤلاءِ؟)
قال: ماتُوا في الإشْراكِ؟
فقال: (إنَّ هذه الأمةَ تُبْتَلَى في قُبُورِها، فلولا أنْ لا تَدَافَنُوا لدعوتُ الله أن يُسْمِعَكم من عذابِ القبرِ الذي أسمَعُ منه).
ثم أقبَلَ علينا بوجهِه، فقال: (تعوَّذُوا بالله من عذابِ النارِ).
قالوا: نعوذُ بالله من عذابِ النارِ.
فقال: (تعوَّذُوا بالله من عذابِ القبرِ).
قالوا: نعوذُ بالله من عذابِ القبرِ.
قال: (تعوَّذُوا بالله من الفتنِ ما ظَهَرَ منها وما بطنَ).
قالوا: نعوذُ بالله من الفتَنِ ما ظهَرَ منها وما بطَنَ.
قال: (تعوَّذُوا بالله من فتنةِ الدجالِ).
قالوا: نعُوذُ بالله من فتنةِ الدِّجالِ. [أخرجه مسلم].

وعن البَراء بن عازبٍ رضي الله عنه قال: خرَجنا مع النبيِّ ﷺ، في جَنازةِ رجلٍ من الأنصارِ، فانتَهيْنا إلى القبرِ ولمَّا يُلْحَدْ، فجلَسَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، وجلسْنَا حولَه كأنَّ على رُءُوسِنَا الطَّيرَ، وفي يدِه عُودٌ ينكُتُ في الأرضِ، فرفعَ رأسَه، فقال: “استَعِيذُوا بالله من عذابِ القبرِ مرَّتين، أو ثلاثًا.
ثم قالَ: (إنَّ العبدَ المؤمنَ إذا كانَ في انقطاعٍ من الدنيا وإقبَالٍ من الآخرةِ نزلَ إليه ملائكةٌ من السماءِ بِيضُ الوجوه ..
قال: (وإنَّ العبدَ الكافرَ إذا كانَ في انقطاعٍ من الدنيا وإقبالٍ من الآخرة نزلَ إليه من السماءِ ملائكةٌ سُودُ الوجوه، معهم المُسُوحُ، فيجلِسون منه مدَّ البصرِ، ثم يَجيءُ مَلكُ الموتِ، حتى يجلسَ عند رأسِه، فيقولُ: أيتها النفسُ الخبيثةُ! اُخرُجي إلى سخطِ من الله وغضَبٍ. قال: فتُفَرَّقُ في جسدِه، فينتَزعُها كما يُنْتزَعُ السَّفُّودُ من الصُّوفِ المبلولِ، فيأخُذُها، فإذا أخذَها لم يدَعُوها في يدِه طرفةَ عينٍ حتى يجعَلُوها في تلك المُسُوحِ، ويخرُجُ منها كأنتنِ ريحِ جِيفةٍ وُجِدَتْ على وجهِ الأرضِ.
فيصعَدون بها، فلا يمُرُّون بها على ملأٍ من الملائكةِ، إلا قالوا: ما هذا الرُّوحُ الخَبِيثُ؟ فيقولون: فلانُ بنُ فلانٍ بأقبَحِ أسمائِه التي كان يُسَمَّى بها في الدنيا، حتى يُنْتَهَى به إلى السماءِ الدنيا، فيُستَفتَحُ له فلا يُفْتَحُ له، ثم قرأَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: {لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} [الأعراف: 40].
فيقولُ الله عزَّ وجلَّ: اكتُبُوا كتابَه في سِجِّينٍ في الأرضِ السُّفْلَى، فتُطْرَحُ روحُه طرحًا، ثم قرأَ: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ، فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [الحج: 31].
فتُعَادُ روحُه في جسدِه، ويأتِيه ملَكان، فيُجلسَانه، فيقولان له: من ربُّك؟
فيقول: هاه هاه لا أدرِي.
فيقولانِ له: ما دينُك؟
فيقولُ: هاه هاه لا أدرِي.
فيقولان له: ما هذا الرجلِ الذي بُعِثَ فيكم؟
فيقولُ: هاه هاه لا أدري.
فيُنادِي مُنادٍ من السماءِ أن كذَبَ [في رواية: فيقول: لا أدرِي، سمعْتُ الناسَ يقولون ذاك، قالَ: فيُقَالُ: لا دريتَ. وفي رواية: ولا تلوْتَ]، فافرِشُوا له من النارِ، وافتَحُوا له بابًا إلى النارِ، فيأتِيه من حَرِّهَا، وسَمُومِها، ويُضَيَّقُ عليه قبرِه حتى تختَلِفَ فيه أضلاعُه.
ويأتيه رجلٌ قبيحُ الوجهِ، قبيحُ الثيابِ، مُنْتِنُ الريحِ، فيقولُ: أبشِرْ بالذي يسُوءُك، هذا يومُك الذي كنتَ تُوعَدُ، فيقولُ: مَن أنت؟ فوجهُك الوجه يَجِيُء بالشَّرِّ، فيقولُ: أنا عمَلُك الخبيثُ، فيقولُ: ربِّ لا تُقِمِ الساعةَ.
[صحيح: أخرجه أحمد. المُسُوحُ: ثوبٌ من الشعرِ غليظٌ. السَّفُّودُ: حديدةٌ يُشوى بها اللحمُ. وسَمُومهَا: لهيبها. أضْلَاعُه: الضلع: عظمٌ من عِظَام قفص الصَّدْر. مِرْزَبَةٌ: مطرقة كبِيرَة من حَدِيد تكسر بها الحجارةُ].

٢- مشهد المنافق:

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: (إذا قُبِرَ أحدُكم أو الإنسانُ أتاه ملكانِ أسودَان أزرقَان، يُقَالُ لأحدِهما: المُنَكَرُ والآخرُ: النَّكيرُ، فيقُولانِ له: ما كنتَ تقولُ في هذا الرجلِ محمد؟ فهو قائلٌ ما كان يقولُ، فإن كانَ مؤمنًا قال: هو عبدُ الله ورسولُه، أشهدُ أن لا إله إلا الله وأنَّ محمدا عبده ورسوله ..
وإن كانَ منافقًا قال: لا أدري، كنتُ أسمَعُ الناسَ يقولون شيئًا فكنتُ أقولُه، فيقولان له: إنْ كنَّا لنعلَمُ أنك تقولُ ذلك، ثم يُقَالُ للأرضِ: التئِمي عليه، فتلتَئِمُ عليه حتى تختلِفَ فيها أضلاعُه، فلا يَزالُ مُعَذَّبًا حتى يبعَثُه الله من مَضجَعِه ذلك)
. [سنده حسن، على خلاف في تصحيحه: أخرجه الترمذي، وابن حبان. وفي سنده عبد الرحمن بن إسحاق مختلف فيه، وأكثر العلماء على تحسين حديثه، والله أعلم].

٣- مشهد المُتكبِّرُ:

عن ابن عمر رضي الله عنهما، أنَّ النبي ﷺ قال: (بينمَا رجلٌ يجرُّ إزارَه من الخُيَلَاءِ خُسِفَ به، فهو يتَجلجَلُ في الأرضِ إلى يومِ القيامةِ). [أخرجه البخاري. الخُيَلاء: الكبر والتبختر مع الإعجاب بالنفس. يتجَلجَلُ: يتحرك ويَهوِي في أعماقِ الأرضِ، والجلجلَةُ الحركةُ مع الصوتِ].

وفي روايةٍ: (بينمَا رجلٌ يمشي في حُلَّةٍ، تُعْجِبًه نفسُه، مُرَجِّلٌ جُمَّتَه، إذ خَسَفَ الله به، فهو يَتجلجَلُ إلى يومِ القيامةِ). [أخرجها البخاري، ومسلم. حُلَّةٍ: ثوبان من نوعٍ واحدٍ. مُرَجِّلٌ جُمَّتَه: مُسرِّح رأسه، والجمة هي الشعر الذي يتدلى إلى الكتفين، أو هو مجمع شعر الرأس].

قال العلماء: كأنَّ المُختالَ تخيَّل فضيلةً في نفسه على غيرِه، فاختالَ متكبرًا بها في مشيِه على غيرِه، فأمرَ الله الأرضَ فابتلَعتْه، فهو يغوصُ في الأرضِ ويضطربُ ويتحرَّكُ في نزولِه فيها إلى يومِ القيامةِ، وفي هذا تحذيرٌ من الخُيَلاءِ، وترهيبٌ من التَّكبُّرِ.

قالوا: وهذا الحديثُ يفيدُ تركَ الأمنِ من تعجيلِ المؤاخذةِ على الذنوبِ، وأنَّ عُجْبَ المرءِ بنفسِه وثوبِه وهيئتِه حرامٌ وكبيرةٌ.

قالوا: وإعجابُ الرجلِ بنفسِه هو: ملاحظتُه لها بعينِ الكمالِ والاستحسانِ مع نسيانِ مِنَّةِ الله تعالى، فإنْ رفعَها على الغيرِ واحتقرَه فهو الكِبْرُ.

قلت: وظاهرُ الحديثِ أنه يُعَذَّبُ هذا العذابَ في قبرِه؛ بدليلِ قولِه صلى الله عليه وسلم: (فهو يَتجلجَلُ إلى يومِ القيامةِ).

٤- مشهد الذي لا يرحَمُ خلقَ الله:

عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: كسَفَتِ الشمسُ على عهدِ رسول الله ﷺ في يومٍ شديدِ الحرِّ، فصلَّى رسولُ الله ﷺ بأصحابِه .. ثم قالَ: (إنه عُرِضَ عليَّ كلُّ شيء تُولَجُونَه، فعُرِضَتْ عليَّ الجنةُ، حتى لو تناولْتُ منها قِطْفًا أخذْتُه، فقَصُرَتْ يَدِي عنه. وعُرِضَتْ عليَّ النار، فرأيتُ فيها امرأةً من بني إسرائيلَ تُعَذَّبُ في هِرَّةٍ لها، ربَطَتْهَا فلم تُطعِمْها، ولم تدَعْهَا تأكُلُ من خَشَاشِ الأرضِ). [أخرجه مسلم. خَشاش الأرض: هوام الأرض وحشراتها].

وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، أنَّ رسولَ الله ﷺ قال: (عُذَّبَتِ امرأةٌ في هرةٍ سجنتْها حتى ماتَتْ فدخَلَتْ فيها النارَ، لا هي أطعمَتْها وسقَتْها إذ حبستْهَا، ولا هي تركتها تأكُلُ من خَشَاشِ الأرضِ). [أخرجه البخاري، ومسلم].

قال العلماء: في الحديثِ دليلٌ لتحريمِ قتل الهِرَّةِ، وتحريمِ حبسِها بغيرِ طعامٍ أو شرابٍ. وأما دخولُها النارَ بسببِها فظاهرٌ الحديثِ أنها كانت مسلمةً، وإنما دخلَتِ النارَ بسبب الهرة، وقال بعضهم: يجوزُ أن تكونَ كافرةً عُذِّبَتْ بكفرِها، وزِيدَ في عذابِها بسبب الهرةِ. والأظهر عندي الأولُ، والله أعلم.

قلت: وظاهر الحديث أنها تُعَذَّبُ هذا العذابَ في قبرِها؛ لأنَّ النبي ﷺ رآها تُعَذَّبُ، وهذا إنما يكونُ الآن في البرزخِ، والله أعلم.

٥- مشهد المغتاب:

عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: (لما عَرَجَ بي ربِّي مررْتُ بقومٍ لهم أظفَار من نُحاسٍ، يخمِشُونَ وجوهَهم وصدورَهم، فقلت: من هؤلاء يا جبريلُ؟ قال: هؤلاء الذين يأكُلون لحومَ الناسِ، ويقَعُون في أعراضِهم). [أخرجه أحمد وأبو داود. يخمِشون: يَخدِشون].

قال بعض العلماء: لما كان خَمْشُ الوجه والصدرِ من صفات النساءِ النائحاتِ، جعلهما جزاءَ من يغتابُ ويفرِي من أعراضِ المسلمين؛ إشعارًا بأنهما ليسا من صفاتِ الرجالِ، بل هما من صفاتِ النساءِ في أقبحَ حالةٍ وأشوهِ صورةٍ.

قلت: وإنما عُذِّبَ المُغتَابُ هذا العذابَ لأنه ما اغتابَ أحدًا من المسلمين إلا لحقدٍ وحسدٍ ملأَ قلبَه، ولهذا فإنه يخمِشُ هذا الصدرَ الذي مُلِئ حقدًا وبغضًا بيدِه، وإنما هو الذي يخمِشُ نفسَه بنفسِه ليكون العذابُ أشقَّ.

ويخمِشُ وجهَه لأنَّ الغيبةَ إنما تكونُ في الغالبِ بالقولِ باللسانِ، وقد تكونُ بالغَمْزِ بالعيِن؛ قال الله تعالى: {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ} [الهمزة: 1]، قال العلماء: أي: طعَّان مَعْيَابٍ، يهمِزُ ويلمِزُ بلسانِه وعينِه.

٦، ٧- مشهد الذي لا يتنزه من البول، والنمام:

عن ابن عباسٍ رضي الله عنهما قال: مرَّ رسولُ الله ﷺ على قبرَين، فقال: (إنهما ليُعذَّبان، وما يُعذَّبان في كبيرٍ، أما هذا فكان لا يستَتِرُ من بوله، وأما هذا فكان يمشِي بالنَّميمة). ثم دعا بعَسِيبٍ رطْبٍ فشقَّه باثنين، فغرَس على هذا واحدا، وعلى هذا واحدا، ثم قال: (لعلَّه يُخفَّفُ عنهما ما لم ييْبَسا). [أخرجه البخاري، ومسلم].

وفي لفظ للبخاري: (يُعذَّبان، وما يُعذَّبان في كبيرٍ، وإنه لكبيرٌ).
وفي لفظ لمسلم: (قال: وكان الآخر لا يستنْزه عن البولِ أو من البولِ).
وفي لفظ للنسائي: (كان أحدهما لا يستبرِئُ من بولِه).
قال النووي رحمه الله: وأما قول النبي ﷺ: (لا يستتِرُ من بولِه): فروي ثلاث روايات؛ (يستتر)، و (يستَنْزِه)، و (يستبرِئ)، وكلها صحيحةٌ، ومعناها لا يتجنَّبُه، ولا يتحرَّزُ منه.

قال العلماء: قولُه ﷺ: (وما يُعذَّبان في كبيرٍ): فيه احتمالاتٌ: أحدهما: أنه ليس بكبيرٍ في زعمِهما، والثاني: أنه ليس بكبيرٍ عليهما تركُه، والثالث: ليس بأكبرِ الكبائرِ. والمرادُ بهذا الزجرُ والتحذيرُ لغيرِهما، أي: لا يتوهَّمُ أحدٌ أنَّ التعذيبَ لا يكون إلا في أكبر الكبائرِ الموبقات، فإنَّه يكونُ في غيرِها.

وسببٌ كونِهما كبِيرين أنَّ عدمَ التنزُّهِ من البولِ يلزَمُ منه بطلانُ الصلاةِ، فتركُه كبيرةٌ بلا شك. والمشيُ بالنميمةِ والسعيُ بالفسادِ من أقبحِ القبائحِ. ووضعُه صلى الله عليه وسلم الجَريدتين على القبرِ محمولٌ على أنَّه صلى الله عليه وسلم سألَ الشفاعةَ لهما فأُجِيبتْ شفاعتُه صلى الله عليه وسلم بالتخفيفِ عنهما إلى أن يَيْبسَا.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه, أن رسول الله ﷺ قال: (أكثرُ عذابِ القبرِ في البولِ). [إسناده صحيح: إسناده صحيح: أخرجه أحمد، وابن ماجه. وقد صححه بعض أهل العلم، وأعله آخرون، والظاهر لي صحته، والله أعلم].

وعن عبد الرحمن بن حسَنَةٍ رضي الله عنه قال: خرج علينا رسولُ الله ﷺ وفي يده كهيئةِ الدَّرقَةِ، قال: فوضَعها، ثم جلسَ، فبالَ إليه النبي ﷺ.
فقال بعضُ القوم: انظروا إليه يبولُ كما تبولُ المرأةُ.
قال: فسمِعَه النبي ﷺ فقال: (ويحكَ أما علمْتَ ما أصابَ صاحب بني إسرائيلَ؟ كانوا إذا أصابَهم شيءٌ من البولِ، قرَضوه بالمقاريضِ فنهاهم؛ فعُذِّب في قبرِه). [صحيح: أخرجه أبو داود، والنسائي، وابن ماجه، وأحمد. الدَّرقَة: التُّرسُ إذا كان من جلودٍ ليس فيه خشبٌ ولا عصَبٌ. فوضَعها: جعلها حائلًا بينه وبين الناس. ويحك: كلمة ترحم وتهديد. قرَضوه: قطعوه. المقَاريض: آلةُ القطع].

قال العلماء: كان من شأنِ العربِ البولُ قائمًا، فلمَّا قامَ النبيُّ ﷺ فبالَ جالسًا، واستترَ إلى الدرَقةِ؛ كرِهوا ذلك، وزعموا أنَّ شهامة الرجلِ لا تقتضي السِّتْرَ، ولا أن يبُولَ جالسًا، فوبَّخهم ﷺ وهدَّدهم، وذكَّرهم بأنَّ بني إسرائيل كانوا يقطَعون الموضعَ الذي يُصيبُه البولُ؛ لأنه يظهر والله أعلم ما كان يجوزُ لهم أن يُطَهِّروا موضعَ النجاسةِ بالماءِ، وإنما التطهيرُ في دينِهم كان بقطْعِ المتنجس، فنهاهم رجلٌ منهم عن هذا، وقال: إنَّ هذا تكلُّفٌ شديدٌ فاتركوه؛ فعُذِّبَ في قبرِه بسبب هذا.

فحذَّر النبيُّ ﷺ أصحابَه من هذا، وكأنه ﷺ وسلم قال: لا تستثقِلوا ما أبيُّنه لكم من الأحكامِ فعلًا أو قولًا، ولو كان على خلافِ عاداتِكم في الجاهليةِ، كما استثقل صاحبُ بني إسرائيل، وإلا فيُخْشَى أن يُصيبَكم مثل ما أصابه.

وقال بعض العلماء: كان هذا المتكلمُ منافقًا، وقال بعضهم: بل النظرُ في الرواياتِ يُرجِّحُ أنه كان مؤمنًا، إلا أنه قال ذلك تعجُّبًا لِمَا رآه مخالفًا لما عليه عادتُهم في الجاهلية، وكانوا قريبَ العهد بها. قلت: وهو الأصح؛ فقد حاء في رواية أبي داود: (انطلقْتُ أنا وعمرو بن العاص إلى النبيِّ ﷺ فخرَجَ ومعه درَقَةٌ ثم استترَ بها، ثم بالَ، فقلنا: انظرُوا إليه يبولُ كما تبولُ المرأةُ؟) وفي رواية الحاكم: (انطلقتُ أنا وعمرو بن العاص، فخرج علينا رسولُ الله ﷺ وبيدِه درَقةٌ أو شبيهٌ بالدرقة، فاستترَ بها، فبالَ وهو جالسٌ، فقلت لصاحبي: ألا ترى إلى رسول الله ﷺ كيف يبولُ كما تبولُ المرأةُ؟).

قالوا: والحديث يدل على التنزه من البولِ؛ فإنَّ الظاهرَ أنهم استنكروا بولَه ﷺ قاعدًا، فأخبرهم أنه لأجل التَّنزُّه عن البولِ، فإنَّ البائلَ قائمًا قد لا يَسلَمُ من رشاشِ بولِه.

واعلم أنَّه لا يجوزُ لك أن تبالِغ في التنزُّه من البولِ حتى تكونَ موسوسًا، فإن بعضَ الناسِ قد يصِلُ به الوسواسُ إلى أن يظَلَّ ساعةً في الحمامِ يبولُ، ولو تخلَّصَ من الوسواسِ ما أخذَ بولُه من وقتِه أكثر من بضعَ دقائقَ، فاعلم أنَّ خيرَ الأمورِ الوسط، فلا تفريطَ ولا إفراط.

٨- مشهد الذي يأمرُ بالبرِّ وينسى نفسَه:

وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: (مررْتُ ليلةَ أُسرِيَ بي على قومٍ تُقرَضُ شِفاهُهم بمقاريضَ من نارٍ.
قال: قلت: من هؤلاء؟
قالوا: خطباءٌ من أهل الدنيا مِمَّن كانوا يأمُرون الناسَ بالبرِّ، ويَنسَونَ أنفسَهم، وهم يتلون الكتابَ، أفلا يَعقِلون)
. [صحيح بطرقه: أخرجه أحمد، وابن حبان، وأبو يعلى، وفي طرق فيها مقال يسير، يصح بمجموعها إن شاء الله. تُقرَضُ: تقطع].

قلت: لا يلَزمُ في المعروفِ أنْ يعملَ به العبدُ إن كان مُسْتَحبًّا، فقد آمُرُ النَّاسَ بصيامٍ مُستَحَبٍّ ولا يلزمُنِي الصَّوْمُ بذلك. وإنما يُحْمَلُ هذا الوعيد – والله أعلم – على مَنْ كان يأمُرُ بالواجبَاتِ ولا يأتِيهَا إصْرَارا وإعرَاضًا، أو كانَ ينهَى عن المُحَرَّماتِ، ويأتيها تهَاوُنًا واستخفَافًا.

وإنما كان عذابُ هؤلاءِ بتقطيعِ شفاههم لأنهم عصَوا الله بها؛ فخطبُوا في الناسِ يدعونهم إلى طاعةِ الله تعالى، وينهونهم عن معصيةِ الله، ولم يفعلُوا بما قالوا استخفافًا واستهزاءً. فأما من كان يأمر الناسَ بالمعروفِ ويجتهدُ في فعلِه، لكن همتَه تقصُرُ به فيضعفُ عن فعلِ بعض ما أمرَ الناسَ به، أو كان ينهى الناسَ عن معصيةِ الله تعالى، ويبذل وُسعَه في البعد عما حرَّم الله وسوله صلى الله عليه وسلم، لكنَّ قدمَه تزِلُّ، فتضعُفُ نفسُه، ويقَعُ في بعضِ ما نهى الناسَ عنه، وهو نادمٌ على ذنبه، مستغفِر ربَّه، تائبٌ إليه؛ فهذا لا يدخلُ في هذا الوعيدِ، والله أعلم.

٩- مشهد المُفطِرُ في رمضان من غيرِ عذرٍ:

عن أبي أمامة الباهليّ رضي الله عنه قالَ: سمعْتُ رسولَ الله ﷺ يقولُ: (بينا أنا نائمٌ إذ أتاني رجلانِ، فأخذا بضَبْعِي، فأتَيَا بي جبَلًا وعْرَا، فقالَا: اصعَدْ.
فقلت: إني لا أطيقُه.
فقالا: إنَّا سنُسَهِّلُه لك.
فصعَدْتُ حتى إذا كنت في سَواء الجبلِ إذا بأصواتٍ شديدةٍ.
قلت: ما هذه الأصواتُ؟
قالوا: هذا عُوَاءُ أهلِ النارِ.
ثم انطلقَ بي، فإذا أنا بقومٍ مُعَلَّقِين بعَراقِيبِهم، مُشَقَّقةٍ أشداقُهم، تسِيلُ أشداقُهم دمًا.
قال: قلت: من هؤلاءِ؟
قال: هؤلاءِ الذين يُفطِرونَ قبل تَحِلَّةِ صومِهم.
ثم انطلقَ فإذا بقومٍ أشدِّ شيءٍ انتفاخًا، وأنتنِه ريحًا، وأسوأِه منظرًا، فقلت: من هؤلاء؟
فقال: هؤلاء قتْلى الكفارِ.
ثم انطلقَ بي فإذا بقومٍ أشدِّ انتفاخًا وأنتنِه ريحًا، كأنَّ ريحَهُمُ المراحِيض، قلت: من هؤلاء؟
قال: هؤلاء الزَّانون والزَّواني.
ثم انطلقَ بي، فإذا أنا بنساءٍ تنهَشُ ثديَهُنَّ الحيَّاتُ، قلت: ما بالُ هؤلاءِ؟ قال: هؤلاءِ يمنعْنَ أولادَهن ألبانَهن.
ثم انطلقَ بي، فإذا أنا بغِلمان يلعبَونَ بين نهرين، قلت: من هؤلاء؟
قال: هؤلاء ذرارِي المؤمنين.
ثم شرَفَ شرَفًا، فإذا أنا بنفرٍ ثلاثةٍ يشربون من خمرٍ لهم، قلت: من هؤلاء؟
قال: هؤلاء جعفرٌ، وزيدٌ، وابنُ رواحة.
ثم شرَفني شرفًا آخر، فإذا أنا بنفرٍ ثلاثةٍ، قلت: من هؤلاء؟ قال: هذا إبراهيمُ، وموسى، وعيسى، وهم ينظُرونِي
). [إسناده صحيح: أخرجه ابن حبان، وابن خزيمة، والحاكم. عُواء: صياح. العُرقوب: من الإنسان وتَرٌ غليظٌ فوق العَقِب، والعَقِبُ: عظمٌ مُؤخَّرَ القدمِ. أشداقُهم: الشِّدق: جانبُ الفمِ].

فهذه عقوبةُ الذي يُفطِرُ في رمضان، يُعَلَّقُ من عُرقوبة، وهو وتَرٌ في القدمِ، قد تقطَّعَ فمُه، وهو يسيلُ دمًا، جزاءً وفاقًا. وكما أنهم أفطَروا قبل تحلَّةِ صومِهم في الغالبِ بالأكلِ والشُّربِ بأفواهِهم، فإنهم يُعَذَّبون في تلك الأفواه التي عصَوا الله بها.

١٠- مشهد الغَالّ في الجهاد:

عن أبي هريرة رضي الله عنه قالَ: افتتحْنا خيبرَ، ولم نغنَمْ ذهبًا ولا فضةً، إنما غنِمْنَا البقرَ والإبلَ والمتاعَ والحَوائطَ، ثم انصرفْنَا مع رسولِ الله ﷺ إلى وادِي القُرى، ومعه عبدٌ له يُقَالُ له مِدْعَم، أهداه له أحدُ بني الضِّبِابِ.
فبينما هو يحُطُّ رَحْلَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم إذ جاءَه سهمٌ عائِرٌ، حتى أصابَ ذلك العبدَ، فقال الناسُ: هنيئًا له الشهادةَ، فقال رسول الله ﷺ: (بل، والذي نفسي بيدِه، إنَّ الشَّمْلَةَ التي أصابَها يومَ خيبرَ من المغانمِ، لم تُصبْها المقاسِمُ، لتشتَعِلُ عليه نارًا).
فجاءَ رجلٌ حين سمِعَ ذلك من النبي ﷺ بشِراكٍ أو بشِرَاكَيْن، فقال: هذا شيءٌ كنتُ أصبتُه، فقالَ رسولُ الله ﷺ: (شِراكٌ – أو شِراكان – من نارٍ). [أخرجه البخاري، ومسلم].

قلت: الغُلُولُ في أصلِ معناه أخذُ شيءٍ من الغنيمةِ في الجهادِ قبلَ القِسْمة، لكنَّه ليس قَاصِرًا على هذا فحسب، بلْ من أخذَ شيئًا مِنْ بَيْتِ مَالِ المسلمين وَمن الزَّكَاةِ فهو غالٌّ أيضًا. والهدايا التي تُهْدَى إلى العُمَّالِ والولاةِ وموظَّفِي الدَّولةِ بغرضِ التَّقَرُّبِ منهم لإحقاقِ باطلٍ أو إبطَالِ حقِّ هي من الغُلُولِ الذي يحرُمُ أخذُه، ومن الرِّشَى التي يحْرُمُ إعطَاؤُها. لكنَّ يظهر لي والله أعلم أنَّ الذي يُتوَعَّد فاعلُه بالعذابِ في القبرِ هو الغلولُ من الغنيمةِ في الجهادِ؛ لأنَّ العذابَ ورد فيمن غلَّ في الجهاد كما ترى.

الخطبة الأولى فديو:

الخطبة الأولى صوت:

الخطبة الثانية فديو:

الخطبة الثانية صوت:

سعيد القاضي

محبكم طالب علم، وقارئ قرآن، وباحث ماجستير في الشريعة. مسلم سني، لا أنتمي لأي حزب أو جماعة ❤

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى