Jannah Theme License is not validated, Go to the theme options page to validate the license, You need a single license for each domain name.
التاريخ الإسلامي

بطولات صنعت التاريخ ٢- حديقة الموت

الشجاعةُ والإقدامُ، والصبرُ وقوةُ الإيمانِ، تلك هي بطولة قصتنا. في أصعب المواقف، وأحلك الظروف، وشدة البأس، لم يتردد هؤلاء الأبطال الشجعان في بذل أرواحهم لإعلاء كلمة الله، فثبتوا ولم يَهِنوا أو يضعُفوا، وأقدَموا ولم يتراجعوا.

✍️ فاقرأ معي بداية القصة:

في يوم الاثنين، الثاني عشر من ربيع الأول، من السنة الحادية عشرة للهجرة، ٨ يونيو سنة ٦٣٢ من ميلاد المسيح، توفي سيد البشر محمد ﷺ، بعد أن نشر الإسلام في ربوع الجزيرة العربية، ولم يبق بيت فيها إلا وبلَغَته رسالة الله، وقد دخل أكثر أهل الجزيرة في دين الله تعالى، راغبين في عفو ربهم، طامعين في رحمته.

وأصاب أصحابَ النبي ﷺ فزعٌ شديد، وحُزن عظيم بموته ﷺ، بل لم يصدّق بعضهم وفاتَه ﷺ، حتى قام عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقال: والله ما مات رسول الله ﷺ، وليبعثنّه الله فليقطعنّ أيدي رجالٍ وأرجلهم.

✍️ ومات رسول الله ﷺ:

وجاء أبو بكر الصديق رضي الله عنه ودخل على رسول الله ﷺ وهو مُغطّى، فكشف عنه ﷺ، فقبّله، ثم قال: بأبي أنت وأمي، طِبت حيًّا وميتًا، والذي نفسي بيده لا يذيقُك الله الموتتين أبدا، ثم خرج.

فلما رأى عمرًا قال له: أيها الحالف؛ على رسلك، فجلس عمر، وبدأ أبو بكر رضي الله عن بالكلام، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: ألا من كان يعبد محمدا ﷺ فإنّ محمدا قد مات، ومن كان يعبد الله فإنّ الله حيٌّ لا يموت، ثم قرأ قول الله تعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر: 30]، وقوله: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران: 144].

فذهب رسول ﷺ إلى لقاء ربّه، وحمل الرايةَ من خلفه أبو بكر الصديق t، واجتمعت كلمةُ المسلمين عليه خليفةً لرسول الله ﷺ، وما إن بدأ أبو بكر رضي الله عنه أيامَ حُكمه إلا وبدأ خطر عظيم يهدّد دولة الإسلام الناشئة، ويُؤذِنُ بزوالها إن لم يتم تدارك هذا الأمر في بداياته.

✍️ المرتدون:

لقد ارتدّ كثيرٌ من العرب عن دين الإسلام، وانقلبوا على أعقابهم بعد وفاة النبي ﷺ، واستفحل أمر هؤلاء المرتدين وعَظُم شرُّهم، حتى خَشِي الصديق على المسلمين منهم، وكان رأس هؤلاء المرتدين وأكثرهم قوة، واكثرهم عددًا مُسَيلمة الكذّاب، الذي ظهر باليمامة أيام رسول الله ﷺ، لكنّ أمره عَظُم، وفتنتَه استشرت في الناس بعد وفاة النبي ﷺ، وتبعه كثير من العرب إما حَمِيّةً، وإما جهلًا.

وأدرك أبو بكر الصديق رضي الله عنه أنه لابد من وَأدِ فتنةِ مسيلمةَ في بداياتها قبل أن يَعُمّ ضررُها، ويَعظُم شرها.

✍️ جيش الإسلام يطأ أرض اليمامة:

بعث أبو بكر الصديق رضي الله عنه عكرمة بن أبي جهل لقتال مسيلمة الكذاب باليمامة، وأرسل خلفه شُرَحبيل بن حَسنة، تعجل عِكرمة رضي الله عنه ولم ينتظر مجيء شُرَحبيل، فاشتبك مع مسليمة، فانهزم ولم يَثبُت لكثرة جيش مسيلمة، ثم لحق به شُرَحبيل فانضمَّ إليه.

وكان الصديق رضي الله عنه قد أرسل سيف الله المسلول خالد بن الوليد رضي الله عنه لقتال مسيلمة، وسار رضي الله عنه في طريقه إلى اليمامة لا يمر بأحد من المرتدين إلا قاتلهم ونكّل بهم، وأرسل الصديق سَرِيّةً خلف خالد لتكون رِدءًا له من ورائه.

وسمع مسيلمةُ بقدوم خالد رضي الله عنه مدَدًا لشُرَحبيل وعِكرمة فاستنفر أهل اليمامة، وحثهم على قتال المسلمين، وحشد جيشًا عظيمًا لم تَرَ اليمامةُ مثلَه قبلَه، ثم سار بجيشه يملأ قلبَه الزهوُ والكبر، فعسكر بجيشه في مكان يقال له: عقرباء، في طرف اليمامة، وجعل على مجنبتيْ جيشِه المحكم بن الطفيل، والرجال بن عنفوة.

قدم خالد رضي الله عنه اليمامة، والتقى بجيش عكرمة وشُرَحبيل، وكان هو قائد الجيش وأمير المسلمين بأمر أبي بكر t، فجعل رضي الله عنه على المقدمة شُرَحبيل بن حسنة وعلى المجنبتين زيد بن الخطاب وأبا حذيفة بن عتبة، وراية المهاجرين مع سالم مولى أبي حذيفة، وراية الأنصار مع ثابتِ بن قيس بن شمّاس، والعرب على راياتها.

وفي ليلة المعركة المرتقبة وبينما تستكشف مقدمة جيش المسلمين الأجواء رأوا نحوا من أربعين فارسًا، عليهم مجاعة بن مرارة، وكان قد ذهب لأخذ ثأرٍ له في بني تميم وبني عامر وهو راجع إلى قومه، فأخذوهم وأتوا بهم إلى خالد، وسألهم عن خبرهم فاعتذروا إليه فلم يصدقهم، فقال لهم: ماذا تقولون يا بني حنيفة؟

قالوا: نقول: منا نبي، ومنكم نبي.

فقتلهم إلا مجاعة بن مرارة، استبقاه مقيّدًا عنده، لِما بلغه عنه من علمِه بالحرب والمكيدة، وكان سيدًا في بني حنيفة شريفًا مطاعًا.

✍️ بداية المعركة:

وجاءت اللحظة الفارقة، وحانت ساعةُ القتال، وتَواجَه جيشُ الإيمان وجيش الكفر، وبدأ مسيلمةُ يحثّ قومَه على القتال، ويملأ قلوبَهم بالكفر والنّفاق، فقال لهم: اليومُ يومُ الغيرة، اليومَ إن هُزمتم تستردف النساء سبيّات، ويُنكَحن غير حظيّات، فقاتلوا عن أحسابِكم، وامنعوا نساءَكم.

واشتبك الفريقان، وكانت الغلبة في أول المعركة للمسلمين، ولكنّ الأعراب انهزموا حتى دخل بنو حنيفة خيمة خالد بن الوليد، وهمّوا بقتل زوجتهِ أمّ تميم، واشتد القتال، وقاتلت بنو حنيفة قتالًا شديدًا لم يُعهَد مثلُه.

✍️ ثبات أصحاب النبي ﷺ:

وكان في هذه الملحمة عدد كبير من أصحاب النبي ﷺ، فاستبسل الصحابة رضي الله عنهم في القتال، وظهر منهم ثبات عظيم، وسطّر التاريخُ بطولاتهم المجيدة، وجعلوا رضي الله عنهم يتواصَون فيما بينهم ويقولون: يا أصحاب سورة “البقرة” بَطَل السحرُ اليوم.

وكان من هؤلاء الشجعان الأبطال ثابت بن قيس رضي الله عنه ذلكم الصحابي الجليل الذي بشره النبي ﷺ بالجنة قبل وفاته، وكان رضي الله عنه حامل لواء الأنصار، فلقد تَحنَّط رضي الله عنه وتَكفَّن، وحَفَر لقدميه في الأرض إلى أنصاف ساقيه، وقاتل ببسالة وشجاعة منقطعة النظير، ولم يزل رضي الله عنه يَفتِك بالمشركين حتى رَوَت الأرضَ دماؤه الطاهرة.

وقال زيد بن الخطاب أخو الفاروق عمر: أيها الناس، عُضُّوا على أضراسكم، واضربوا في عدوكم، وامضوا قُدُمًا، والله لا أتكلم حتى يهزمهم الله أو ألقى الله فأكلّمه بحجتي، ولم يزل رضي الله عنه ثابتًا يقاتل المشركين بشجاعة وضراوة حتى قُتِل شهيدا رضي الله عنه.

✍️ بطولات أهل القرآن:

وقال المهاجرون لسالم مولى أبي حذيفة حاملِ لوائهم: أتخشى أن نؤتى من قبلك؟

فقال: بئس حامل القرآن أنا إذًا.

وكان سالم رضي الله عنه من أقرإِ أصحاب النبي ﷺ وأعلمِهم بكتاب الله تعالى، حتى لقد قال النبي ﷺ: (استقرؤوا القرآن من أربعة:..) وذكر ذلك الشجاع المغوار سالم مولى أبي حذيفة رضي الله عنه.

وقال أبو حذيفة: يا أهل القرآن، زيّنوا القرآن بالفِعال، وحمل على المشركين بشجاعة حتى أحدث فيهم خسائرَ عظيمةً، وأصيب رضي الله عنه.

أما القائد الشجاع والبطل المغوار خالد بن الوليد رضي الله عنه فقد ثَبُت ثبات الجبال، وقاتل ببسالة، حتى لقد دخل في وسط المشركين فجاوزهم وسار بحيال مسيلمة، وجعل يترقب أن يصل إليه ليقتله، لكنّ المرتدين كانوا قد تجمعوا حوله بكثرة، فلم يستطع أن يصل إليه، فرجع رضي الله عنه، ثم وثب بين الصفين، ودعا إلى البراز، وقال: أنا ابن الوليد العود، أنا ابن عامر وزيد. ثم نادى بشعار المسلمين يومئذ: يا محمداه، وجعل لا يَبرُز له أحد إلا قتله.

ودارت معركة لم يشهد المسلمون مثلها، وصبر أصحاب النبي ﷺ في هذه المعركة صبرا لم يُعهد مثله، ولم يزالوا يتقدمون إلى نحور عدوهم حتى فتح الله عليهم، وولى المشركون الأدبار، وأتبعَهم المسلمون قتلًا وأسرًا.

ثم احتمى بنو حنيفة بحديقة لهم سميت حديقةَ الموت، وأغلقوها عليهم، وظنوا أنهم في حماية بها من المسلمين، وأن المسلمين لن يستطيعوا دخولها.

✍️ الأسد الشجاع البراء بن مالك:

أحاط الصحابة رضي الله عنهم بالحديقة الحصينة، وهم لا يدرون ماذا يفعلون، وهنا ظهر الأسد الشجاع والبطل المقدام الذي قلّ أن تجد له نظيرًا في تاريخ البشر، إنه البطل الشجاع البراء بن مالك رضي الله عنه.

لما رأى البراء رضي الله عنه أن المشركين قد تحصنوا بالحديقة فكّر في طريقة ليتمكن المسلمين من اختراق هذه الجدران، فقال: يا معشر المسلمين، ألقوني عليهم في الحديقة.
يا الله!

كيف ذلك؟ هل هذا شيء يصدقه العقل؟

إنها الشجاعة والإقدام، والبذل والفداء، احتمل المسلمون البراء فوق الحجف ورفعوها بالرماح حتى ألقوه من فوق السور، وهناك كان العدو في انتظاره، وقد تكاثروا عند الباب لحمايته من أي هجوم للمسلمين، فلم يزل البراء يقاتلهم عند الباب حتى فتحه، ودخل المسلمون كالسيل الجارف إلى الحديقة من حيطانها وأبوابها يقتلون من فيها من المرتدين من أهل اليمامة، حتى خلصوا إلى مسيلمة لعنه الله، وإذا هو واقف في ثلمة جدار، كأنه جمل أورق، وهو مزبد متساند، لا يعقل من الغيظ.

وكان وحشيّ بن حرب قاتلُ حمزةٍ رضي الله عنه قد خرج في جيش المسلمين ليس له همّ إلا قتل مسيلمة، لعله بذلك يُكَفّر عن قتله لحمزة رضي الله عنه، ورأى وحشي مسيلمةَ فاغتنم هذه الفرصة لقتل هذا الكذّاب الأشر رأس الكفر في بلاده، فتقدم إليه وحشي فرماه بحربته فأصابه وخرجت من الجانب الآخر، وهنا ينقضّ الشجاع المشهور أبو دجانة سماك بن خرشة على مسيلمة فيضربه بالسيف فيسقط صريعًا.

فكان جملة من قتلوا في الحديقة وفي المعركة من المشركين قريبًا من عشرة آلاف مقاتل، وقيل: واحد وعشرون ألفًا، وقُتِل من المسلمين ستمائة، وقيل: خمسمائة.

✍️ المصادر:

تاريخ الطبري (3/ 289)، “البداية والنهاية” (9/ 466).

سعيد القاضي

محبكم طالب علم، وقارئ قرآن، وباحث ماجستير في الشريعة. مسلم سني، لا أنتمي لأي حزب أو جماعة ❤
زر الذهاب إلى الأعلى