Jannah Theme License is not validated, Go to the theme options page to validate the license, You need a single license for each domain name.
التاريخ الإسلامي

بطولات صنعت التاريخ ١- أيتها الشمس لا تغربي

قوة اليقين في الله، والثقةِ بوعد الله، هذه بطولة قِصَّتنا. في أَحلكِ الظُّروف، وأصعبِ المواقف، وأحرج الساعات، حين تَعظُم الشدائدُ، وتشتدّ المِحَن، ويتراكم البلاء فوق البلاء، وينقطع الرجاءُ من أهل الأرض، حينها يكون المَفزعُ إلى رب الأرض والسماء.

تبدأ الحكاية لمّا خرج موسى عليه السلام من مصر ومعه بنو إسرائيل فرارًا من بَطشِ فرعونَ وظُلمِه، وتبعهم الطاغيةُ يريد استِئصالَ شَأفتِهم والقضاءَ عليهم، لكنّ الله سبحانه نجاهم بفضلهِ ومَنِّه، فساروا نحو الأرض المباركة أرض الشّام.

أرض الجبارين:

وفي أرض الشّام في بلاد بيت المقدس كان يعيش قومٌ من الجَبّارين من الحَيثَانيين، والفزَاريين، والكَنعانيين، وغيرِهم، وكان الله تعالى قد كتب هذه الأرضَ المباركةَ لذُرِّية إبراهيمَ عليه السلام، ووعدهم إياها، فحَفَّز موسى u قومَه ورغَّبهم في الجهاد في سبيل الله، وقال لهم: {يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ} [المائدة: 21].

تخاذل بني إسرائيل:

لكنهم أَبَوا وأَعرضوا وعاندوا وتخاذلوا، وقالوا: {يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ} [المائدة: 22].

وهنا يشير عليهم بالإقدام والشجاعة رجلان صالحان شُجاعان مِقدامان، قد آتاهما الله فَهمًا حسَنًا، وبصيرةً وهدايةً، فقالا لهم: {ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [المائدة: 23]، لقد كان هذان الرجلان يُوشَعُ بن نونٍ، وكالبُ بن يوفنَّا.

وهنا يُصِرّ بنو إسرائيل على العناد والخذلان، ويقولون: {يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة: 24].

ربي لا أملك إلا نفسي:

فيُقال: إن يوشع وكالب لما سمعا هذا الكلام شقَّا ثيابهما، وإن موسى وهارون عليهما السلام سجدا؛ إِعظامًا لهذا الكلام وغضبًا لله عزّ وجلّ، وشفقةً عليهم من وَبِيل هذه المقالة.

وعندما سمع موسى عليه السلام مقالةَ قومِه لجأ إلى ربِّه قائلًا: {رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} [المائدة: 25]، اقضِ بيني وبينهم ياربي.

ويكون حُكْمُ الله تعالى في هؤلاءِ العُصاة المجرمين بأن قال لموسى: {فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ} [المائدة: 26]، فعوقبوا على نكولهم ([1]) بالتَّيَهان في الأرض، يسيرون إلى غير مقصد، ليلًا ونهارًا، وصباحًا ومساءً.

فيُقال: إنه لم يخرج أحدٌ من التيه ممن دخلَه، بل ماتوا كلُّهم في مدة أربعين سنة، ولم يبقَ إلا ذراريهم، سوى يُوشع وكالب عليهما السلام.

فمن يُوشَعُ بن نون؟

إنه يُوشَع بن نون بن أَفراييم بن يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم الخليل عليهم السلام. إنه الفتى الذي لازم موسى u سنينَ طويلةً ينهَلُ من عِلمه، ويهتدي بهداه، إنه الفتى الذي ذكره الله تعالى في قصة موسى والخِضْر، في قوله سبحانه: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا} [الكهف: 60].

وتمضي الأيام والشهور بل والسّنون وهؤلاء المنقلبون على أعقابهم يهيمون في التِّيه، وينشأُ جيلٌ جديدٌ في بني إسرائيل تربّى على الإيمان بالله تعالى، والاستسلام والانقيادِ لأمرِه سبحانه، وها هي الأربعون عامًا توشك على الانقضاء، وما زال موسى u في شوقٍ إلى تنفيذ أمر ربِّه، والخروج لقتال هؤلاء الجبارين، وإمتاع ناظِرَيْه برؤية القدس، تلك الأرض المباركة.

الإعداد للمعركة الفاصلة:

ويأتي الأمر من رب العالمين إلى نبيِّه موسى u بأن يُعِدَّ بني إسرائيل ليتأهبوا لقتال الجبّارين، فقد أوشكت الغُمَّة أن تُرفَع، وقَرُب الفرجُ.

وكان بنو إسرائيل مقسّمين إلى أَسْباط، وهم بُطُون بني إسرائيل المتشعبة من أولاد إسرائيل وهو يعقوب u، وهم اثنا عشر سِبْطًا.

فجعل موسى u على كل سِبْطٍ من الاثني عشر أميرًا، وهو النقيب، كما في قول الله تعالى: {وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ} [المائدة: 12].

فكتب موسى u أسماءَ المقاتلة من بني إسرائيل، ممن يحمِلُ السلاحَ ويقاتل، ممن بلغ عشرين سنةً فصاعدًا على ما يذكرون، وجعل على كل سبطٍ نقيبًا منهم؛ فيُقال أن جملةَ ما ذُكِر من المُقَاتِلةِ: خمسمائةُ ألف وواحدٌ وسبعون ألفًا.

ويشاء الله بحكمته أن يموت هارون عليه السلام وبنو إسرائيل ما يزالون في التِّيه، ثم بعده بسنتين يموت موسى u قبل انقضاء سنوات التِّيه، مات u والأشواقُ إلى القدس تغمُر قلبَه، فيسأل ربَّه: “اللهم أَدْنِني من الأرض المقدسة رميةً بحجرٍ”.

جيشٌ لا يُهزَم:

وكانت بنو إٍسرائيل تسوسهم الأنبياءُ، كلَّما مات نبيٌّ خلَفَه نبيٌّ، فلما مات موسى u خلفه يوشع بن نونu، وبدأ يعيد ترتيبَ الجيش قبل أن يذهب لقتال الجبارين.

وأراد يُوشَع u ألَّا يذهبَ معه إلا رجلٌ قد وهب نفسَه وقلبَه وحياتَه لله تعالى، فلا يزالُ مشهد تولِّي بني إسرائيل وانقلابِهم على أعقابهم وخذلانِهم لنبيِّهم موسى u لا يفارقُ عينيه.

أراد يُوشَع عليه السلام ألَّا يذهب معه للقتال رجلٌ تعلَّق قلبُه بالدنيا، وانخدع بمفاتنِها وزينتِها، وألا ينشغلَ قلبُه بشيء منها ولو كان حلالًا، لقد أراد رجالًا يبذُلُون أرواحَهم رخيصةً في سبيل الله، أراد رجالًا قويّةً قلوبُهم، لا يهابون الموت، ولا يخشون إلّا الله، عزيمتُهم حديدٌ، وبأسُهم شديدٌ.

قال عليه السلام لقومِه: لا يتبعْني رجلٌ وله حاجةٌ في الرجوعِ، لا يتبعني رجلٌ قد مَلك بُضْعَ امرأةٍ، وهو يريدُ أن يبنيَ بها، ولَمَّا يَبْنِ ([2]).

ولا رجلٌ قد بنى بُنيانًا، لم يفرُغ منه.

ولا آخرُ قد اشترى غنمًا أو خَلِفاتٍ ([3])، وهو منتظرٌ وِلادَه.

لقد أراد عليه السلام ألّا يأخذ رجلًا تَعَلّق قلبُه بشيء من هذه الأمور، حتى يُقبِلَ على القتال في سبيل الله بذهنٍ صافٍ، وقلبٍ خالٍ، من مشاغل الدنيا ومفاتنها.

إنّ فتنَ الدنيا تدعو النفسَ إلى الهلَع والخوفِ ومحبةِ البقاء؛  فمن مَلَك بُضْعَ امرأةٍ ولم يدخُل بها أو كاد أن يدخل؛ فإن قلبه متعلقٌ بالرجوع إليها، وقد يدخل الشيطانُ إليه من هذا المدخل فيصدُّه عن طاعة الله، وكذلك من بدأ بناءَ بيت ولم يُتمَّه، أو له ناقةٌ ينتظر ولادها.

والأمورُ المهمّة لا ينبغي أن تُفوَّض إلا إلى حازمٍ، فارغ البال لها؛ فإنّ من تَعَلّقَ قلبه بأمرٍ من هذه الأمور ربما ضَعُفَت عزيمتُه، فلا يذهب للقتال بشجاعة وإقدام، والقلبُ إذا تفرق همُّه ضعفت الجوارحُ عن العمل، وإذا اجتمعت الهموم وصارت همًّا واحدًا قَوِيَ القلبُ.

لقد أراد يُوشَع عليه السلام أن يُشَكّل جيشه من أفضل المحاربين وأشجعهم من بني إسرئيل، أراد جيشًا رايتُه: إما النصر أو الشهادة، أراد جيشًا من الكوماندوز والمغاوير ورجال العمليات الخاصّة، جيشًا لا يَرجِع إلا منتصرًا، قد وهب حياتَه وباع نفسَه في سبيل إعلاءِ كلمة الله.

ملحمة في بيت المقدس:

وانطلق يُوشَع عليه السلام ومعه الشجعان الأبطال من صفوة بني إسرائيل ممن تعلقت قلوبهم بربهم، وقَوِيت عزائمُهم في طلب الآخرة، وسار بهم نحو بيت المقدس.

ودارت رَحَى معركةٍ لم يشهد التاريخُ مثلَها، واشتدّ القتال، وأظهر المسلمون من بني إسرائيل شجاعةً وصبرًا لا نظير له، وكان النصرُ حليفَ المؤمنين في هذه المعركة المصيريّة، وكَادَ المسلمون أَنْ يفتحوها، لكنّ الشمس قد أوشكت على الغروب، وخَشِي يُوشَع u أن يدخل الليلُ فيتوقف القتال، وهنا لجأ إلى ربه وتضرّع بين يديه، ونظر إلى الشمس بقلب قد ملأه الإيمانُ واليقين، فقال لها: أنتِ مأمورةٌ، وأنا مأمورٌ، بحرمتي عليكِ إلا ركدْتِ ساعةً من النهار، اللهم احبسْها عليَّ ساعةً، حتى تقضِيَ بيني وبينهم.

أيتها الشمسُ لا تغربي!

وهنا حدثت المعجزةُ التي لم تحدث من قبلُ ولا بعدُ لأحدٍ من البشر، لقد توقفت الشمس في مكانها عن الحركة، ومازالت رَحَى الحرب تدور، ودارت الدائرة على الكافرين، ونصر الله عباده المؤمنين.

قال النبي ﷺ: “إن الشمسَ لم تُحبَس على بشرٍ إلا ليُوشَعَ لياليَ سار إلى بيت المقدسِ”.

فانظر إلى ثقته عليه السلام في ربِّه سبحانه وتعالى، ما استعظم على ربه شيئًا، بل دعاه صادقًا، وتضرع إليه واثقًا، فالله لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء.

كن واثقًا بربك:

وهكذا المؤمن إذا دعا ربَّه صادقًا، أجاب الله دعاءَه، وأحدث لأجله الكراماتِ، وخوارقَ العاداتِ، ونجاه من الشدائد والكرباتِ، كن بربِّك واثقًا، فعلى قدر ثقتك يكون قربُه منك، وإجابتُه لك.

فيا من أتعبه المرضُ، واشتد به البلاءُ، تضرع إلى ربِّك، وسلْه أن يشفيَك، وأن يكشفَ عنك الضرَّ، وكن واثقًا بربِّك.

ويا من ضاق صدرُه من كثرة المعاصي، وأرهقه ذنبٌ أقضَّ مضجعَه، وأسهره ليلَه، قم وادعُ ربَّك، وتذلَّل بين يديه، وكن واثقًا بربِّك.

ويا من حُرِم الذريةَ، وتاقت نفسُه إلى الولد، ودِّع همومَك وقم بين يدي ربِّك، وسَلْهُ ذريةً طيبةً، وكن واثقًا بربِّك.

ويا من اشتكى من شدة الفقرِ، وضيقِ الرزق، وشظَفِ العيش، وهمِّ الدَيْن، قُم وتذلَّل بين يدي ربِّك، وسلْه رزقًا واسعًا، واستعن بربِّك على قضاء دَينِك، وكن واثقًا.

ويا من أصابته الكروبُ، وتزاحمت عى قلبِه الهمومُ، وضاقت عليه الأرضُ بما رَحُبَت، وعظُم به البلاءُ، قُم وتذلَّل بين يدي ربِّك، وسلْه تفريجًا لكَربك، وذهابًا لهمِّك، وتعوَّذ به من حزنك، وكن واثقًا بربِّك.

مهما كانت حاجتُك، ومهما كان طلبُك، ومهما كانت محنتُك، ومهما كانت كُربتُك، إذا لجأت إلى ربِّك، واثقًا بقدرتِه وحكمتِه، وأنه لا يُعجزُه شيءٌ في الأرض ولا في السماء، وتقربتَ إليه بحسنِ طاعتِك إيَّاه، وأخذت بأسباب إجابةِ الدعاء، فكن على يقينٍ أنه سيجيب دعاءَك لو كان في هذا الخير لك.

المصادر:

“صحيح البخاري” (3124)، “صحيح مسلم” (1747)، “مسند أحمد” (2/ 325) بسند صحيح، “فتح الباري” (6/ 221)، “البداية والنهاية” (2/ 124 – 127، 232).


([1]) أي: امتناعهم ورجوعهم.

([2]) “بُضْع”: البضع يطلق على الفرج والتزويج والجماع، والمعاني الثلاثة لائقة هنا. ” ولَمَّا يبْنِ بها”: ولم يدخلْ عليها.

([3]) “خَلِفات”: جمع خَلِفة، وهي الحامل من النُّوق، وقد يطلق على غيرِ النُّوق.

سعيد القاضي

محبكم طالب علم، وقارئ قرآن، وباحث ماجستير في الشريعة. مسلم سني، لا أنتمي لأي حزب أو جماعة ❤
زر الذهاب إلى الأعلى